من ٢ ديسمير ٢٠٢٤ حتى ٢ مارس ٢٠٢٥
برنامج “هيئات إيكولوجية، أصوات تجريبية، ٢٠٢٤” هو برنامج يهدف إلى التعمق في علاقة الصوت بالبیئة المشكلة له، وفاعلیتة في تشكیل البیئة المحیطة به، من خلال سلسلة قراءات وعروض تجریبیة وجلسات إستماع إفتراضية ومكانية. خلال البرنامج الذي إمتدت جلساتة الإفتراضية طوال شهري فبراير ومارس ٢٠٢٤، حاولنا إلقاء الضوء علي الفنون الصوتیة التجریبیة المعززة لمبادئ الاستماع العمیق بالممارسات الصوت-بصریة والأدائیة المعاصرة متعددة التخصصات والتي تتعرض لمفاھیم البیئة من حولنا وعلاقتنا كبشر بالكائنات والكیانات غیر البشریة. طرحت أسئلة عن كیفیة تأثیر التدخل البشري والنظم الإستعماریة بالایكولوجیات المشكلة للصوت؟ وكیف یمكن من خلال ممارساتنا وأبحاثنا أن نوسع مجالا صوتیا یعزز العدالة المكانیة ویعطي المساحة والوكالة لأصواتنا من منظورات تتعدى اللغة المنطوقة تجاوزا لقوى التواصل المختلفة؟ كيف نجد أصواتنا و نتتبع داخلنا من خلال الصوت؟
خلال البرنامج أيضا استكشفنا كيف يمكن لمفاهيم وممارسات الاستماع والإنصات المختلفة أن تكون منهجية نفهم ونفاوض بها للتفاعل بين الجسم والبيئة واكتشاف الحركة المتضمنة بينهما من خلال دراسات صوتية وتجريبية متنوعة. يشكل البرنامج مساحة للتفكير النقدي حول كيفية تشكل الهويات البيئية والجسدية، مع التركيز على التجريب الصوتي والفني كأداة للتعبير عن العلاقة بين الفرد والمحيط. يعتمد البرنامج على فحص الايكولوجيا الحضرية، والتأثيرات البيئية على الجسد واللغة، والطرق التي يتم بها تشكيل الحواس والهوية من خلال الأصوات في تجاربنا المتنوعة.
شارك في توجيه الجزء الافتراضي من البرنامج كل من الباحثة المغربية أسماء السكوتي، والفنانة متعددة التخصصات الإيرانية المقيمة في برلين ناتاشا صدر حقيقيان، والفنان والمنظّر الصوتي المقيم في برلين براندون لابيل. كما تم تقييم البرنامج من قبل الفنانة والباحثة المصرية سارة حمدي.
بدأت مرحلة الإنتاج الخاصة بالمعرض الافتراضي في مايو ٢٠٢٤ واستمرت حتى أكتوبر ٢٠٢٤، حيث شهدت تطورًا مستمرًا لمقترحات الأعمال الفنية والبحثية التي قدّمها الفنانون المشاركون. هؤلاء الفنانون اختاروا الانخراط في الإنتاج الفني البحثي بناءً على تجاربهم الشخصية و ممارساتهم الفنية التي تأتي من خلفيات متنوعة، سواء كانت سينمائية، معمارية، ادبية أو فنية متعددة التخصصات.
تم تصميم هذه المرحلة لتكون بمثابة حاضنة لتطوير المقترحات الفنية من خلال جلسات توجيهية فردية وجماعية. أتيحت للفنانين الفرصة للعمل جنبًا إلى جنب في لقاءات مكثفة مع آلاء البنان، محررة البرنامج، وسارة حمدي، منسقة البرنامج. كما تم تنظيم ورش عمل تفاعلية بين المشاركين لتبادل الأفكار والتجارب الفنية، مما خلق مساحة للتفاعل الحيوي والابتكار الجماعي.
خلال هذه الفترة، ركّز الفنانون على استكشاف العلاقة بين بيئاتهم الطبيعية والحضرية، مع التركيز على استخدام الصوت والإنصات كأدوات لفهم البيئة المحيطة وكيفية تأثيرها في تشكيل إدراك الجسد كهيئة متجاوزة للعالم المحيط. تنوعت الأعمال الفنية المقدمة بين الصوت، والفيديو، والأداء، إضافة إلى الكتابات البحثية الأدبية. وقد عكست هذه الأعمال التفاعل العميق بين أدائية الجسد والصوت في تفاعلهم مع البيئات الإيكولوجية، سواء كانت بيئات طبيعية أو حضرية، تحت تأثير المتغيرات البيئية أو الاستعمارية، مما قدّم تجارب فنية غنية ومتنوعة تسهم في إعادة التفكير في تأثير البيئة على الجسد والهوية.
شارك في البرنامج مجموعة متنوعة من الفنانين من خلفيات وتخصصات مختلفة، حيث قدم كل منهم عملًا يعكس تجربته الفريدة في استكشاف العلاقة بين الجسد والأنظمة البيئية الحضرية التي تحكمه، وكيفية تجاوز تلك الأنظمة التفاوض معها من خلال آداءات الممارسات الاستماعية. تنوعت الأعمال بين تجارب صوتية تجريبية، مقاطع فيديو مفاهيمية، أعمال أدائية، ونصوص أدبية وبحثية. في كل عمل مقدم نرى انعكاس قدرة الجسد والذهن على مقاومة الأنظمة القمعية، والتفاوض مع المساحات البيئية والايكولوجية، في محاولة لفهم الواقع والتداول معه وتغييره.
ففي عمل “محاولة لتعريف الصوت والتعرف على صوتي ٢٠٢٤”، تقدم الفنانة والباحثة فى علوم الميديا، عبلة عبد النبي، بحثًا عن الصوت، يتتبع تاريخ ظهوره كمفهوم بحثي. تقابل بحثها النصي بعمل صوتي آخر متصل بمشروعها، تقتفي فيه أثر صوتها الداخلي عبر مسارات متعددة، متأملة في وجوده واختفاءاته الضمنية. يأتي عمل عبلة كمحاولة لفهم الذات والمحيط من خلال الصوت الداخلي، والتغيرات الإدراكية والفلسفية القابعة خلف تشكيلاته.
أما آلاء البنان “كاتبة ومترجمة مصرية”، فتتناول في نصها “مترجم الصرخات” تحليلًا لصوت الرعب القادم من بعيد، متمثلًا في الصرخات التي تنبع من حولنا في ظل الأنظمة الاستعمارية الإبادية الحالية. من خلال قصة خيالية يحاول النص إيجاد تفسير حسي أو دياجرامي لصوت الصرخة كترمومتر لفهم تأثيرات الرعب واستكشاف جدوى ما يحدث.
في نصوصه الثلاثة، يستعرض إدريس أمجيش، المترجم والكاتب المغربي، تداخل الأصوات والذاكرة والهوية. يركز على تأثير البيئة والتاريخ في تشكيل الذاكرة، مسلطًا الضوء على الأصوات المفقودة التي لم تعد مسموعة، مستعرضًا الترددات الموجودة في الأشجار والذاكرة الجماعية. نصوصه هي محاولة للبحث في الذكريات المخبأة التي تربطنا بجذورنا، مع التأكيد على الصوت كأداة للسمع وكبحث تخيلي في الذاكرة الحسية.
أما إسلام يوسف، الفنان البصري وصانع الأفلام المصري، فيأخذنا في عمله “من الأساطير تنبع آلهتنا و شياطيننا”، إلى رحلة سحرية عبر تأثير اللغة والكلمة المنطوقة على الذاكرة والهوية. يستكشف إسلام في عمله السحر الكامن وراء الكلمة الأولى، وكيفية تشكيل الأساطير وتأثيرها العميق في إدراكنا للواقع والذاكرة.
روبا السيد(المعروفة أيضًا باسم روبي كورليه)، الفنانة البصرية والناشطة السورية، تستعرض في أعمالها التفاعل الإنساني مع الذكريات الجمعية والحرب السورية من خلال الوسائط الرقمية والفيديو آرت. في عملها، تتبع تغيرات صوت الأذان في الشارع السوري، الذي كان يشكل عنصرًا حيويًا في النسيج الصوتي للمدينة. من خلال هذا الصوت، تروي روبى تاريخًا مستمرًا من التغيرات المدنية والاجتماعية التي أثرت في الناس والمجتمع خلال الحرب المستمرة.
سلمى عبادة، الفنانة البصرية والأدائية المصرية، تتناول تأثير التغيرات الحضرية على الذاكرة والجسد من خلال الأداء والحركة. في عملها، تحاول تسليط الضوء على اختفاء الأصوات في البيئة الحضرية، مجسدة هذا الاختفاء عبر الحركة الجسدية. تحاول سلمى فهم العلاقة بين الصوت والجسد وتأثيرات المحيط الحضري على تجربة الصوت والذاكرة.
أما تالا شمس الدين، المهندسة المعمارية والفنانة السورية، فتتناول في عملها ثلاث قصائد متشابكة بين الهجرة والذاكرة، محاولًة استعادة تعريف الصوت والبيت معًا. من خلال هذه النصوص، تحاول تالا استكشاف مفهومي السكن والأمان الشخصي والجماعي، ربطًا بين الصوت والبيئة، والهجرة كجزء من الذاكرة الحية التي تتشكل في السياقات الحضرية والايكولوجية للشتات.
هذه الأعمال المتنوعة تعكس حوارًا عميقًا بين الجسد، الصوت، البيئة والذاكرة، مستعرضة كيفية تأثير البيئات المختلفة على تشكيل هوياتنا الجسدية والسمعية.
في ختام البرنامج، يقدم المعرض الجماعي الافتراضي “أصوات من بين الهيئة والجسد” مجموعة متنوعة من الأعمال الفنية متعددة التخصصات، التي تشكل معًا تجربة حسية غنية، تمزج بين التجريب الصوتي والفني. هذه الأعمال تمثل مزيجًا من التفكير النقدي والاستكشاف العميق في طبيعة الصوت ذاته، وتفتح أمام الجمهور فرصة لاستكشاف قضايا الجسد، الهوية والبيئة عبر منظور معاصر ومتعدد التخصصات.
من خلال هذه الأعمال، يتم تتبع العلاقة المعقدة بين الكائن البشري وبيئته، محاولين فهم كيف يمكن للفن أن يعكس هذه التفاعلات ويعيد تشكيل مفاهيمنا عن الجسد والطبيعة واللغة. المعرض ليس فقط منصة لاستعراض الأعمال الفنية، بل هو أيضًا مساحة للتأمل في الأسئلة الأساسية حول تأثير الصوت على إدراكنا للعالم من حولنا وكيفية تأثير البيئات المختلفة في تشكيل هوياتنا الفردية والجماعية.
عبلة عبد النبي هي باحثة في علوم الميديا تحاول استكشاف وفهم العالم حولها من خلال الممارسات الإبداعية، مدفوعة بالرغبة في اكتساب المعرفة ومشاركتها في البيئات التعليمية والفنية. يتضمن عملها عادةً مشاريع سمعية بصرية تجريبية وكتابات وفنون أداء.
عبلة عبد النبي هي باحثة في علوم الميديا تحاول استكشاف وفهم العالم حولها من خلال الممارسات الإبداعية، مدفوعة بالرغبة في اكتساب المعرفة ومشاركتها في البيئات التعليمية والفنية. يتضمن عملها عادةً مشاريع سمعية بصرية تجريبية وكتابات وفنون أداء.
في مشروعها، تسعى عبلة إلى التواصل مع الجزء المفقود من هويتها، مستكشفةً صوتها الداخلي. من خلال هذا البحث، تحاول عبلة الاستفادة من حضورها لبرنامج “الهيئات الإيكولوجية، الأصوات التجريبية” لدراسة مفاهيم الصوت والاستماع، لتصل إلى تعريف دقيق لكلمة “صوت” وكيفية تأثير الصوت على أفكار الإدراك والتواصل.
ايه هو الصوت؟ ازاي ممكن نوصل لتعريفه؟ ده كان محور ورشة حضرتها لأسماء السكوتي، حاول المشاركين فيها إنهم يلاقوا طرق مختلفة للتعرف على الصوت ووصفه باكتر من طريقة. الورشة دي كانت جزء من برنامج “الھیئات الايكولوجية، الأصوات التجریبیة” اللي كان فيه أكتر من ورشة علمتني كتير عن الصوت.
واحد من قراءات الورشة كان لأسماء السكوتي نفسها، مقال أسمة “إكو… أو الحجيزة بين الصوت والصمت” في جملة في المقال ده سابت فيا أثر عميق، الجملة بتقول ” أننا حتى لو سمعنا الصوت مباشرة فاحنا لا يمكن أن نطلع على كواليسه؛ نحن لا نسمع الصوت الداخلي الغائب الصاخب في صمته والمختبئ في أعماق صاحبه.”
تشبيه الصوت…
في جلسة من الجلسات مع أسماء السكوتي كانت المناقشة حول استخدام الكناية أو الاستعارة لمحاولة تعريف الصوت. كان صوتي الداخلي وقتها محتار جداً لأن فكرة تشبيه الصوت بشيء تاني في حد ذاتها بالنسبة لي كانت غريبة، لأن مافيش حاجة زي الصوت. يمكن نص إيمان مرسال “الصوت في غير مكانه” إللي شبهت فيه الصوت بخيط من الضوء كان حالة انفرادية لأن الصوت والضوء طاقات غير مجسدة.
تساءلت مع نفسي، هل ممكن يكون الصوت زي شيء (حاجة) تاني(ة)؟
لو هنفكر في تشبيهات تجريدية ومش مجسدة زي إيمان مرسال، فهل ممكن نقول إن الصوت زي الحركة أو زي الوقت؟
في الأصل، الصوت طاقة والطاقة حركة، والحركة وقتية فبالتالي الصوت وقتي. وأعتقد إن الصوت ممكن يكون وحدة زمنية، والزمن بدقاته ممكن يكون وحدة صوتية (زي دقات الساعة).
هل ممكن نشبه الصوت بشيء ملموس، مجسد؟ زي الورد، مثلاً؟ لكل صوت لون وشكل مختلف.. ممكن يكون الصوت زي وردة جميلة، خفيف وناعم الملمس، إحساسه على الجلد كأنه بيطبطب، وله أثر طيب في نفس، أو ممكن يكون زي وردة سامة أو نبات شائك زي الصبار والاحتكاك بيهم بيبقي مؤلم ومؤذي زي أي صوت عنيف (ممكن صريخ، أو دوشة، أو كلام قاسي) سايب أثر جوانا.
لو اعتبرنا الصوت شبه حاجة مش ملموسة بس سلِسة ومحسوسة، فهل مثلاً ممكن يكون زي المياه، شيء محسوس، شفاف، متحرك، (مفهوم)؟، متداول، جزء من أجزاء الحياة اليومية الدائمة اللي لا يمكن الاستغناء عنه؟
وجود الصوت …
وهل الصوت فعلاَ حاجة دائمة الوجود؟ الأكاديمي في علم الفلسفة، كريستوفر كوكس، فسر مشروع لامنتي يونج “بيت الحلم/ Dream House” إنه بيوضح استمرارية الصوت لأن المشروع بيعرض تكوين صوتي وضوئي مستمر والزائر بيخش ويطلع من المكان والصوت موجود من قبلة ومكمل بعده.
في رأيي الشخصي، أعتقد إن الصوت دائم الوجود، ما دام في وسيط، وديماً في وسيط. الصوت في حد ذاته وسيط، شايل معاني كتيرة، لكنه معتمد على وسائط تانية. لأن ببساطة فزيائية الصوت معتمدة على فزيائية الوسيط.
الصوت كوسيط هو وسيط عميق لأن له خصائص كتير، ولكل خاصية مدلول ومعني، بس الخصائص دي ومدلولاتها مش منفصلة عن بعض، بنستوعبهم كشيء واحد. النبرة، التردد، العلو، اللون الصوتي، المدة والطبقة الصوتية، كلهم مَسموعين، ومُدركين في تزامن. بالتالي معايشة الصوت تجربة غامرة جداً ومتداخلة. خصائص الصوت ديما مرتبطة في مخي بكتابة كيليطو في نص “المستنبح” اللي بيشرح فيه ازاي المُستنبِح استخدم صوت النباح عشان يلاقي طريقة بعد ما تاه عن قريته، النص بالنسبالي بيوضح ازاي خصائص الصوت بتبقي جزء من التواصل، وازاي الصوت ككل بيدل علي حاجات أكتر من الكلام.
علاقة الصوت …
صوتي الداخلي رجع تاني لفكرة تشبيه الصوت بشيء تاني وتساءلت هل الصوت ممكن يكون أداة للمعرفة والاستكشاف؟ هل ممكن نقول مثلاً إن الصوت زي الرسالة، حامل لمعلومة، ناقل لمضمون؟ وهل كل الأصوات لها معنى، هل الأصوات تقدر تدلنا على ما هو أبعد من المخزي المباشر للرسالة؟
في نص كيليطو “المستنبح” لما المُستنبِح قدر أخيراً يوصل لقريته كان فقد قدرته على الكلام وفضل يحاول يتواصل مع أهلة والناس بالنباح، بس من غير فايدة لأن صوته بقي غريب عنه وغريب عن اللي حواليه. هنا لازم وقفة لتأمل علاقة الصوت بمكانه. في مقولة بحبها لچون كايچ بتقول “إيه موسيقى أكتر، عربية نقل بتعدي جنب مصنع، ولا بتعدي جنب مدرسة موسيقي؟ وهل الناس جوا المدرسة موسيقيين وبراها مش موسيقيين؟ طيب لو كانوا الناس جوا المدرسة مايقدروش يسمعوا كويس، هل ده هيأثر على السؤال؟” اكيد علاقة الصوت بالمكان علاقة قوية جداً، لأن الصوت والمكان بيتأثروا ببعض. فمثلاً الصوت المَسموع في لحظته ومكانه غير الصوت المُسجل والمسموع بانفصال عن أصل لحظة إنتاجه. مش بس عشان الصوت انفصل عن المكان لكن كمان عشان انفصل عن الوقت.
في ورشة حضرتها مع ناتاشا صدر حقيقيان، إتكلمنا عن المكان وعلاقته بفزيائية الصوت وفكرة اللحظية والزمكان المتلازمين مع إنتاج وسمع وفهم الصوت والإحساس بيه. وقتها كان في انقسام بين المشاركين في المناقشة، لأن في ناس قدرت تتجمع في مكان الورشة، وناس حضرت أونلاين، فكان في نقاش عن ازاي تجربة السمع اللي المشاركين بيخوضوها مختلفة جذرياً عن تجربة السمع بالنسبة للناس المتواجدة في العالم الافتراضي. طبعاً الاستماع الجماعي في حد ذاته تجربة مختلفة عن تجربة الاستماع الفردي اللي المشاركين من العالم الافتراضي عاشوها. كمان الصوت الصادر من سماعات معينة وفي مكان معين مختلف عن نفس الصوت الصادر من سماعات مختلفة وفي مكان تاني، لأن فزيائية الصوت بتأثر عليه كوسيط. غيابي عن المكان وقتها وضح الاختلاف ده أكتر وخلاني أفهم بشكل أعمق ازاي مش بس الصوت، لكن كمان خصائص الصوت، مرتبطة بمكانه. عدم وجودنا في مكان حدوث الصوت بيخلق تجربة مختلفة، الغياب ده ممكن يخلينا نفهم الصوت اكتر، لان ساعات غياب الشيء بيوضح وجوده.
الصوت كتجربة …
من اكتر التجارب الفنية المهمة اللي بتوضح العلاقة بين الصوت والمكان هي تجربة آلڤين لوسير “انا قاعد في أوضة/ I am sitting in a room” اللي بيقوم فيها بأداء تجريبي في حلقة مغلقة ووقتية بتوضح تأثير المكان والتسجيل على الصوت، ولو هدقق، هقول تأثير المكان والتسجيل على الكلام. الأداء مبني على فكرة تسجيل صوت الفنان وهو بيشرح التجربة أثناء جلوسه في غرفة مغلقة، وبعدين بيشغل صوته المسجل من خلال مكبرات صوت لتسجيله مرة أخرى، وبيكرر العملية دي وبينتج تسجيل مدته أطول من ٢٣ دقيقة بيبان فيه اختفاء الكلمات بالتدريج وتحولها لموجات صوتية مجردة لصوت الفنان المرتبط بمساحة وشكل الغرفة وبالتالي بيّكون صوت للغرفة نفسها؛ مع ارتداد شوية ترددات، وتسريب شوية ترددات تانية والدوشة البيضا الخاصة بالمكان. جزء من التجربة دي كان شخصي لآلڤين لوسير وده واضح جداً في النص اللي بيقوله بصوته وبيسجله، في جملة في النص ده بتقول “انا بعتبر التجربة دي مش بس توضيح لحقيقة علمية، بس بعتبرها طريقة لتحسين عدم الانتظام في إلقائي.” لأنه كان بيعاني من تأتأة في كلامه، وفعلاً التجربة اللي عملها اخفت التأتأة قبل ما تخفي كلامه كلياً.
مع إن في ناس كتير مش بتحب تسمع صوتها المتسجل لأنه بيدي إحساس بالغربة عن النفس، أعتقد إن آلڤين لوسير كان مستني إحساس الغربة ده، لان كان واحد من أهداف اداءه الأساسية هو تغير صوته. أنا شخصياً، لما اضطريت اسمع صوتي المتسجل في مجموعة من التسجيلات القديمة اللي كان لازم أدونها، حسيت بغربة شديدة عن صوتي كأنه كان صوت حد تاني، غربتي تخطت إحساس الغربة المألوف، وحسيت فعلاً أني بسمع شخص تاني، مش بس عشان صوتي غريب عن تخيلي عنه، لكن عشان خصائص ومحتوي صوتي كانوا مختلفين جداً عن الصوت اللي بسمعه جوايا والصوت اللي بستخدمه في يومي. صوتي الداخلي دلوقتي ممكن يكون مجموعة من أصوات ناس اتأثرت بيهم؛ كل فكرة بسمعها بصوت الشخص اللي زرعها جوايا. وصوتي اللي بستخدمه عشان اتواصل مع العالم، هو صوت متردد لأن أنا في طبيعتي كائن مستمع أكتر من متكلم. لما بسمع بتعرف على اللي حوليا أكتر وبفهم أكتر، لكن سكوتي ساعات بيخفيني. ماتعودتش إنى أعبرعن نفسي باستخدام صوتي، وخصوصا لما بمر بظروف صعبة؛ لأن بيبقي عندي شعور بعدم الأمان مع فكرة استخدام صوتي من الأساس، وبيكون صوتي مش بس مهتز لكن بيطلع بصعوبة، زي مايكون الصوت شخص عايز يختفي.
الاستماع …
بس هل الصوت ممكن يختفي فعلا؟ ولا هو دايم زي ما اتكلمنا في أول النص؟ في تساؤل فلسفي معروف صوتي الداخلي بيردده لما بحاول أتأمل في الصوت وأتعرف عليه اكتر، التساؤل بيقول “لو في شجرة وقعت في غابة منعزلة عن البشر والكائنات الحية، هل هيبقي ليها صوت أثناء وقوعها؟”
في علماء وفزيائين كتير بيجاوبوا التساؤل ده؛ إن أكيد الشجرة لما هتقع هيبقي ليها صوت، لأن لو اتحط مسجل صوت هيجمع صوت الشجرة، بس روبرت لانز، الطبيب والعالم، في كتابه “المركزية الحيوية: كيف أن الحياة والوعي هما المفتاحان لفهم الطبيعة الحقيقية للكون” بيقول إن الشجرة مش هيبقي ليها صوت لأن مافيش متلقي يستقبل الصوت، وببساطة طالما إن مافيش متلقي يبقي مافيش صوت. هنا ممكن نقول إن الصوت ممكن يكون عملية مكونة من كذا مرحلة لازم تكتمل. في الأول في طاقة متحولة من حركة، بتغير من ذبذبات وسيط وبيبقي في متلقي يستوعب الطاقة دي ويسمعها، بمعني تاني وجود الصوت يشترط وجود فعل السمع.
السمع في حد ذاته من اكتر الحواس العميقة، مش بس عشان هي من أول الحواس اللي بتتكون، لكن عشان السمع ليه طبقات وطرق كتيرة مختلفة عن بعض. فمثلاً في فرق بين إن حد يسمع وإن حد يستمع بتمعن، ومافيش استماع من غير سمع ولا سمع من غير إحساس، سواء كان الإحساس حرفي أو مجازي، والأهم هو إن مافيش إحساس بجزء متجزئ من الصوت، أو بخاصية واحدة من خصائص الصوت لأن طبقات الصوت ديماً متداخلة. بس في تمارين كتير لتدريب الودن وتطوير حاسة السمع. من الناس اللي نشرت كتب ومقالات مهمة عن السمع هي بولين أوليفيروز، من أهم كتبها هو “السمع العميق” اللي تدريبات للقارئ عن طريق إنه يسمع ويركز في أجزاء مختلفة من محيطه الصوتي عن اللي متعود عليه، فممكن يسمع صوت بعد عنه في العادي هيبقي مهمل. بولين اوليفيروز بردوا كتبت عن السمع المتكامل، وازاي الواحد ممكن يسمع كل اللي موجود حواليه، بداية من سمع وفهم المخزي ورا أي صوت وحتى تجريده لخصائص مسموعة مستقلة؛ كل واحدة فيهم لها بريقها وأثرها الخاص. التدريبات السمعية دي بتعزز الصوت.
الصوت والحياة…
في ورشة حضرتها مع براندون لابيل، إتكلمنا عن المساحة اللي ينفع فيها نسمع وازاي مساحات معينة ممكن تكون مكان آمن لناس انهم يعرفوا يعبروا عن نفسهم لأنهم مدركين إنهم هيتسمعوا. وهنا السمع بيكون وسيلة للاحتواء والتَقبُل. إن حد يسمع حد، يعني إنه يشوفه ويعترف بوجوده، وده بيخلي السمع أقوى من الشوف لأن السمع بيتطلب فِهم، مجهود ذهني ووعي. زي ما في فكتاب “الأذن الوسطى” مقال “الأُذن: خريطة السَمع والعصيان” لمحمد عبد النبي، اللي إسمه مشابه لاسم والدي، بيناقش إزاي إن اللي بيسيطر على الودن هو اللي بيسيطر على الفكر. من أكتر الحاجات اللي بتأثر فيا لما بشارك في برنامج لبراندون لابيل، هو صوته وطريقة إلقائه، لأن قراءته بتخليني أستمع بتمعن لصوته ونبرته وخصائص صوته. براندون لابيل في الورشة كان بيتكلم عن علاقة الصوت بالحياة، وإن ازاي الحياة والصوت مرتبطين ببعض ارتباط جذري، العلاقة دي كانت من أكتر الحاجات اللي خليتني اتعرف على الصوت أكتر وأقرب من تعريف ليه، لأن وجود الصوت فعلاً من وجود الحياة، فمثلاً مع الخلق بيظهر صوت دقات القلب ويولد الاستماع، بكل طرقه المختلفة، وبيستمر الصوت عشان يكّون ويشكل الحياة وتفضل الحياة تكون وتشكل الصوت.
آلاء البنان كاتبة ومصححة لغوية ومترجمة فورية، درست الإعلام والترجمة وتعمل بمجال الثقافة والفنون. أدارت العديد من ورش الفنون والكتابة الإبداعية وأنتجت عدة كتب فنية، تُعبر من خلال دمج وسائل مختلفة للتعبير، كالكتابة والرسم والكولاج. هي حالياً مهتمة بأساليب النشر المستقل للكتب الفنية من خلال مشروعها Swimming with the Whales.
آلاء البنان كاتبة ومصححة لغوية ومترجمة فورية، درست الإعلام والترجمة وتعمل بمجال الثقافة والفنون. أدارت العديد من ورش الفنون والكتابة الإبداعية وأنتجت عدة كتب فنية، تُعبر من خلال دمج وسائل مختلفة للتعبير، كالكتابة والرسم والكولاج. هي حالياً مهتمة بأساليب النشر المستقل للكتب الفنية من خلال مشروعها Swimming with the Whales.
مترجم الصرخات هو نص يتناول الصرخة كصوت إنساني لا يتم التعامل معه بشكل شخصي، إنما بشكل جماعي مجرد. يعتبر النص تجربة خيالية لفكرة شخصنة الصرخة في حد ذاتها وتصور إمكانية ترجمتها لإبراز معناها الفردي والشخصي
تحيرني دائما فكرة ” المعنى ” أحياناً أهتم وأبحث عن المعنى ، أبحث عنه فيما أصنع وما أفعل وأقول، فيما يحدث حولى. وفي أوقات أخرى عندما أعجز عن رؤية الأشياء بوضوح وتُستَنفذ طاقتي أفقد شغفي بفكرة المعنى؛ لا أبالي ولا أهتم. عندما يقترب الموت بشدة أو الظلم أو الغضب الشديد، لا أبالي ولا أهتم. وأحياناً –وقد يكون لنفس الأسباب– أعبر من من منطقة عدم الاهتمام بالمعنى بل ومنطقة البحث عن المعنى إلى الرغبة الشديدة في خلق معنى أو تكوين معاني شخصية تنتمي لي وتجربتى الشخصية. ربما هي طريقة للتمسك بالحياة وتفاصيلها اليومية.
راودتنى فكرة المعنى هذه المرة من طريق مختلف، بعد قراءة نص جان جينيه وتأمل بطاقة الجندي المغربي صلاح أحمد صلاح الذى حارب فى الصفوف الفرنسية أثناء الحرب العالمية الثانية. فهو جندى من آلاف الجنود ( مجهول ) ومجهولة قصته كشخص كإنسان له حياة وطموح ومآسي و أحلام خاصة به، قاطعتها الحرب لتحسبه جزء من القطيع: تحول إلى لون ورمز ورقم. أُنتزعت منه قصته. أهذا ما تفعله الحرب إلى جانب الموت والخراب؟ تنتزع القصص والأصوات من أصحابها لتتحول إلى أرقام في قوائم ومستندات.
ومن هذه القصة تذكرت السياق الحالى للحرب في غزة حيث تتحول الحيوات والقصص والأحلام والتفاصيل اليومية إلى أرقام وأسماء في كشوفات. بشكل تلقائي بدأت أتخيل الفعل الأخير لكل منهم قبل مقتله ولم يأت لذهني إلا فعل واحد، لابد وأنهم جميعاً بشكل ما قد صرخوا؛ اصدروا صرخة ما – إلا من لم ير منهم موته بعينه.
****
تُعرف الصرخة على أنها: صيحة شديدة للاستغاثة أو نتيجة عاطفة مثل الخوف أو الفرح.
مصطلح صرخة في واد معناه عمل لا ثمار له.
مصطلح صرخة من القلب معناه صيحة مشبوبة العاطفة تدل على الاحتجاج أو الاستعطاف.
الصُراخ هو صوت المستغيث.
والشئ الصارخ هو الشئ الفادح والواضح الحاد والقوي.
أما عن تعريفي الشخصي للصرخة فهو صوت الشعور القوى، قوى لدرجة الخروج من الجسد، قد يكون شعور بالألم أو السعادة المفرطة أو الرعب أو الإحباط المتكرر أو الغضب أو إظهار للقوى. قد لا يحتمل الجسد قوة الصرخة، فتخرج فى شكل لحظات قصيرة أو طويلة من الصمت والتجمد الممزوج برعشة وعدم اتزان أو عدم القدرة على التنفس. وقد تأتي الصرخة بصوت منخفض غير مسموع. قد تدل على الاحتجاج أو الاستعطاف أو الاستسلام أو الشجاعة والتمسك بالحياة.
****
فتساءلت : هل كانت صرخاتهم واحدة؟
إن كان هناك اعتراف رسمي وموثق للصرخات، هل ستعتبر كلها واحدة متشابهة ؟ هل سيلخص معناها ويحدد فى كلمات مثل: صرخة خوف – صرخة استغاثة – صرخة موت – صرخة شيء آخر.
في اليوم التالي تَدَخَل خيالى … تصورت لو أن هناك ترجمة فعلية للصرخات، ولو أن هناك مترجمين محترفين للصرخات وأن بعد انتهاء الحروب تكون الصرخات جميعها مخزنة بشكل ما في باطن الأرض وأن هناك أجهزة متخصصة لإعادة هذه الصرخات من ذاكرة الأرض لتسجيلها وترجمتها وأرشفتها .تخيلت رحلة مترجم محترف إلى إحدى الأراضي في فلسطين أو السودان – تصورته يمشى بين أطلال الحرب وفى يده جهاز عجيب الشكل متجه إلى خيمة مجهزة لمهمته العجيبة المؤلمة الروتينية (في سياق هذه القصة).
فكرت، ربما تستخدم هذه الصرخات للمعرفة والاستدلال وأيضاً كأداة لتعذيب مجرمي الحرب بعد محاكمتهم، حيث يُجبَرون على الاستماع لهذه الصرخات المصاحبة لمعانيها في غرف مظلمة حتى الموت.
****
كالعادة تطورت الفكرة …” قد تتحول إلى رواية!”
“لا لا رواية إيه بس؟ أنا فيا نفس!”
نعم. لا أستطيع تحمل مسؤولية أي عمل إبداعي تزيد مدة إنجازه عن يومين، يوم للكتابة ويوم للمراجعة.
حاولت تشجيع نفسي “ربما قصة مصورة – بلاش رواية.”
قصة مصورة …! الغريب أنه لم يأت إلى ذهني إلا ” كيف سأرسم الصرخات ؟ “
إن كان لكل صرخة معنى ، لابد أن يكون لها رسمة ربما توضح مستويات موجاتها الصوتية أو شكل نبراتها: دائرية؟ حلزونية؟ خطوط مستقيمة؟ لا نهائية؟ فبالتأكيد رسمة صرخة خوف مريم تختلف تماماً عن رسمة صرخة خوف محمد لأن خوف مريم يختلف عن خوف محمد لأن صوت مريم غير صوت محمد ولأن مریم لیست محمد.
****
تسائلت لو أن هناك من حلل حركة الجسم أثناء حدوث الصرخة: ما الأعضاء النشطة في تلك اللحظة؟ أي جزء من الجسم يتحرك قبل الآخر؟ هل يمكن توحيد ميكنة هذه العملية؟ هل تستجيب كل الأجساد للصرخات المختلفة بنفس الشكل ؟
من واقع خبرتي لصرخة حزن وفقد، فالحركة الأولى تكون في الأمعاء لكيان ما يشبه السائل، يتحرك استجابة لإحساس “شيء ما سيحدث”. ثم يحدث “الشيء” فيتحرك السائل كطوفانٍ صغير متجهاً إلى الرئتين. ينتفضان! يريدان الخروج من حدود الجسد أو الانفجار، ولإستحالة هذا، يتجمدان. ويتجمد مكان القلب والحجاب الحاجز والوقت. تفتح القنوات الدمعية، ربما حتى لا يصاب الجسد بالشلل، وفي نفس اللحظة تفقد مفاصل الجسد سيطرتها وتخرج من الصدر أصوات متقطعة مختلطة، محاولات للنطق، حروف م ن ف ص ل ة. بين مسافاتها أنفاس تدخل ولا تخرج، ثم تتبدل حركة الرئة، فتخرج الأنفاس ولا تدخل، تتكون صرخة مكتومة وتتحرر عند أعلى الصدر، لا الحنجرة… تتحرر.
ثم يحدث شيء عجيب في الرأس، تطفو الأشياء المحيطة والأصوات الأخرى، تطفو لتخلق شيء واحد منسجم كموجة بحر، ثم، تطول الموجة، أو تقصر، أو تتكرر، ثم … سكون. ويرتاح الجسد ويستمع لصدى تلك الصرخة وما صاحبها … في هدوء.
الصرخة لا تكون بمفردها. لن نستطيع تحمل الصرخة بمفردها. نحتاج إلى شيء ما كموج البحر ليحتضنّا معها أثنائها. نحتاج إلى الرؤية المشوشة والاستماع المضطرب حتى نستطيع أن نتذكرها بدون أن نصدرها مرة أخرى.
****
ولكن، ماذا إن لم تكن الصرخة ذكرى؟ ماذا إن أتى بعدها الموت وكانت هى اللحظة الأخيرة؟ أعود هنا للفكرة الأساسية: معنى صرخات ضحايا الحروب قبل مقتلهم. هو سیاق خیالی، ربما محاولة لتحدى القوائم والأرقام والإعلام والنسيان والرموز والقوالب، محاولة لإعادة القصص المنزوعة وإن كانت غير حقيقية.
فلنعد للرواية التى لن أكتبها لكسلى الشديد ولخوفي من البحث المتعمق. بطل الرواية هو سليمان أحمد مترجم صرخات محترف وموهوب من أب عراقي وأم مصرية. ولد في لبنان – ترك أبوه العمل بالشئون السياسية بعد أن أصيب بالجنون والاكتئاب. يعمل سليمان بهيئة صوت الأرض؛ هيئة غير حكومية مهمتها جمع الأدلة الصوتية وغير الملموسة وتخزينها وتحليلها وارشفتها كأدلة جنائية وكمادة تسجيلية موثقة. فى وسط أحداث الرواية يختفي سلیمان ويتطوع بعض زملائه للبحث عنه مع فريق من المرشدين المدنيين. أثناء رحلة بحثهم يعثرون في مخبأ تحت الأرض بالقرب من سوق حي الأمل بخان يونس في غزة على كراسة ملاحظات خاصة بسليمان … على أولى صفحات الكراسة عنوان “عينة عشوائية من صرخات غزة”. في الصفحة بعض الأسماء والأماكن والتواريخ و بعض من ملاحظات وتساؤلات سليمان.
****
في نهاية القصة لم يعثر على سليمان ولكن يتأكد فريق البحث أنه قتل في القدس. يستسلمون ويتركون مشهد مؤلم من الحزن والغضب بعد معرفة أن سليمان قد قتل. ولكن تصر واحدة من زميلات سليمان (ربما صديقته أو حبيبته) على استكمال رحلة البحث ودليلها هو كراسات وملاحظات سليمان من رحلاته السابقة، ربما تعثر على تفاصيل قصة مقتله، أو جثته، أو صرخته. يأتي لذهنها كل ليلة قبل أن تنام معاني مختلفة محتملة أحيانا غريبة وغير متوقعة للصرخة المفقودة لمترجم الصرخات.
إدريس أمجيش، مترجم وكاتب من المغرب. تستكشف نصوصه تداخل الأصوات والذاكرة والهوية في سياق يربط بين الإنسان والطبيعة والتاريخ.
إدريس أمجيش، مترجم وكاتب من المغرب. تستكشف نصوصه تداخل الأصوات والذاكرة والهوية في سياق يربط بين الإنسان والطبيعة والتاريخ.
يقدم إدريس ثلاثه نصوص، يتناول النص الأول ماهية الأصوات التي تملأ حياتنا وتأثيرها على إدراكنا للذات والعالم، فيما يمنح النص الثاني للأشجار أصواتًا منفردة، جاعلاً منها رموزًا للذاكرة والأصل. النص الأخير، يتم به إحياء شخصيات منسية بواسطة السرد، في محاولة لاستعادة أصوات الماضي الغائبة والمغيّبة.
السادسة صباحا، يوم الأحد، بعد ذكر موضوع الأصوات المفاجئة، ألعاب نارية، تفجرت ست مرات، أو لعلها سبع. لا أتذكر العدد بالضبط، فاليوم كان عطلة والساعة كانت السادسة. بعين شبه مفتوحة، أفكر في مصدرها الممكن، لعلها ما تبقى من مفرقعات ليلة السنة، أتذكر سماعها آنذاك. لعل أحد الخارجين عن قانون المدينة وجد فيها لعبة مناسبة للياليه، لعل صمت السادسة صباحا لم يعجبه، فقال، مثلما قال الإنسان الأول، لم لا أحدث شرخا في السكون. افتراضات. تذكرتها في الظهيرة جالسا في المقهى، أرقب من بعيد فيديوهات المذبحة التي لا تتوقف وأستمع من بعيد إلى أزيز الدْرونات التي لا تتوقف. أتساءل هل للساعات أصوات؟ بعضها مضبوط ومتوقع، بعضها ينسل ليباغت عتمة العادة، يخترقها. مثلا، لا يفطر العجوز الذي يدخل المقهى يوميا في التاسعة ويجلس في الكرسي أمامي إلا على صوت الجزيرة، يظل على هذه الحال إلى أن يغفو بعد ساعة، دائما في نفس الوقت، بلا حس وبلا صوت وعلى مسمع من الأصوات. من يخاطب فيّ من وأنا جالس بسماعاتي أستدعي أصواتا غائبة؟ أتساءل عن يوم بلا أصوات وعن يوم ما فيه إلا الأصوات. كاكوفوني وسمفونية تخلع الأذن من منزلها. لكل ساعة صوت. لكل حالة صوت. لكل صوت صوت. توتر الصوت داخلي ساكن. أتذكر أنه كان محتدا في وقت ما. لمن ينصت صوتي الداخلي عندما يكون صائما عن الكلام؟ بأي صوت أتكلم في الأحلام؟ صوتي بالدارجة أم بالشلحة أم بالعربية أم بالانجليزية؟ ليس بالفرنسية بالتأكيد. كلها أصواتي أنا المتعدد أم هي أصواتي أنا المنفرد؟ تنطق كيف وهي متفرقة؟ لكن أليس ما يحدث في اجتماعها نشازا؟ أليس تغريبا للصوت الذي هو صوتي؟ أليس إلصاق تقويم آخر به؟ فالتفكير كما يقولون يتحدد باللغة، ألا يمكن أن نقول إذن إن الصوت الناطق يحدد طاقة هذا الصوت؟ الأنا الناطق بصوت الجبال الذي كدت أنساه، حاضر أم غائب؟ الأنا الناطق بصوت الشارع، حاضر أم غائب؟ الأنا الناطق بصوت الغريب، حاضر أم غائب؟ بأي صوت ينطق الغائبون فيّ، بصوتي أم بصوتهم؟ كيليطو مثلا قال أتحدث جميع اللغات ولكن بلغتي، فهل يمكن أن أقول بدوري أنطق بجميع الأصوات، لكن بصوتي؟ أتذكر دروس البصريات التي لم أكملها في الجامعة، كيف أن الضوء طاقة ومادة، نقيض صارخ لا يُمسك، تكتفي بأحدهما دون الآخر. أتصور الضوء متجمعا، مارا عبر مكبرة، كيف يحرق وينتج الدمار. أتصور الصوت متجمعا، في الأذن، ضاربا الرأس من كل مكان، هل يشوى الدماغ مثلا بهذا التوتر الدال على المدينة؟ ماذا عن غياب الصوت؟ أليس هو الآخر طريقا للجنون، كما في تلك الغرفة الهادئة حد سماع تدفق الدم في الشرايين؟ تتوقف الأصوات في الخارج ولكن أصوات الداخل لا تتوقف. نحن أصوات، جسدنا ينتج أصواتا تحتاج الصمت كي تسمع. ماذا عن فاقدي حاسة السمع، ما يسمعون؟ يشير جاك لاكان مثلا إلى أن الطفل يبدأ في إدراك الأنا في طور المرآة، لحظة يقابل نفسه في المرآة أول مرة. أسأل بدوري متى يقابل الإنسان صوته الداخلي أول مرة؟ من منا يقدر أن يحدد متى سمع ذلك الصوت أول مرة، هل كان صوتا أصلا؟ أجزم أن لا أحد قادر على هذا التحديد لأن الصوت يكون ثمة كأنه موجود منذ الأزل، ولعله كذلك، لأن السمع يبدأ من عتمة الرحم. الصوت أولا، ثم الضوء، ثم المعنى. أصحاب نظرية التطور يقولون إن الحواس تشكلت لحفظ الحياة، كلما ارتقت صارت أرهف بما يتيح البقاء ومراوغة وحوش الغابة التي تفترس كل مختال معدوم الإدراك. أعود إلى أصل الصوت لأن صوتي لا أصل له. لا تعين، لا تحقق. الصوت توتر حي، طاقة كامنة في الأشياء والأحياء، في الداخل والخارج، فاعل بوجوده وفاعل بغيابه. مثلا، الأصوات الصادرة عن آليات البناء، أين تذهب؟ أتندثر في الفراغ أم أنها تمتزج لتشكل صوت المبنى الداخلي الذي ينطق ويُستنطق ممن يُنصت؟ برج خليفة، كم من أذن أعطبها؟ مباني القرية القديمة، المتهدمة الآن، بأي أصوات انتصبت؟ ليس أصوات الآلات بالتأكيد، بل أصوات الأيدي والطين والضراعات، وربما الشتائم الموجهة إلى شمس حارقة. للطرش صوت أيضا: خلخلة. أما الصمم فبلا صوت: سكينة للأذن. نولد عميان ثم نبصر، نولد مستمعين، خبراء نستجيب للأصوات حولنا. لذلك السمع سابق على البصر، وبالمثل الصوت سابق على الصور. نسمع ونسمع ونسمع، ثم تأتي لحظة ينتفض فيها صوت من الداخل، لا ندري منبعه، ولكننا ندركه حاضرًا، مثل الشمس.
الصوت شجرة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، ولكن الأصل ليس دائما ثابتا، قد يُجتث من مكانه، بريح قوية أو بيد متسلطة تتحكم فيه آلة جرافة، حتى الفروع لا تظل على حال واحد، تتبدل بتبدل المواسم، تتلون، تكتشف في أصلها، إن هو ظل ثابتا، شفرة الحياة، تُمسكها من الجذور المحتجبة وتنقلها إلى السطح الظاهر، تبدي محاسنها وسوءاتها لكل مبصر، لكل منصت، لكل متشمم.
بعد هذا التقديم المستغني عن التعريفات المعروفة، تنطق أربع أشجار بالدور:
أنا شجرة التين المنتصبة في الطريق إلى المخبزة، رائحتي تستدرّ من الذاكرة السور المحيط بفناء منزل عمّ في القرية، والطفلين المتسابقين على أرضيته المُسمنَتة حفاة، بوثبات القطط، لا خوف عليهم ولا هم يأبهون. أولئك الصغار، بعد أن كبر أحدهم، صار يدق على النوم ليوسّع له في فراشه السماوي. لي توائم قريبة في المدينة، أقربها، حين تتعرى، تبدو كأنها تتضرع بأغصانها إلى السماء. (تذكروا: الخيال ناطق بمكنون مولاه). إحدى قريباتي الأخريات، حين كانت تخضرّ، كانت تستوقف مارا يستنشق كل مرة عبقها ليعود إلى أصله. قطعوها، فقطع الله بهم بعض أصله.
أنا شجرة الأوكاليبتوس، أصلي في غابة مفصولة عن ملعب لكرة القدم بحجاب من الحديد وفرعي يمتد أعلى من شجرة التين في السماء. حضوري يفتح دروب الذاكرة الموصلة إلى محمد، الذي عرّف مقطوع الأصل على الغابة التي بها بئر لم يلحظ وجودها إلا قبل عامين ونصف، حين كان يداوم على الجري، ثم يمارس التأمل بعينين مفتوحتين، جالسا على هضبة تحت سيادة النمل، متفكرًا في عصياني لسكون الموت، بالحركة. يستدعي انتصابي كذلك قريباتي البعيدات المُستّفات على ضفتي الطريق الوطنية العائدة بالباحث عن الأصل إلى المدينة، حيث ينتظره ضجيج التيه.
أنا شجرة النخيل، سعفي الربيعي المصفّر الأطراف يُذكّر الضائع عن الأصل بمشية طويلة، رفقة صديق من الجبال، على ممشى الفسحة القريبة من بداية المحيط الأطلسي، أو نهايته. بحضوري يحضر انعكاس الشمس على السعف في الظهيرة، في الواحدة القريبة من الثانية، والاستلقاء على عشب اختلط فيه على الفاقد للأصل مكانه قبل عامين بمكانه بعد عامين. تستدعي الانعكاسات أيضا البحر، والأصياف الغابرة التي بعثرت الريح تفاصيلها في كل الجهات، كما تستدعي مشهدا من فيلم “المنفي على القمر”، حين استلقى البطل على الأرض المعشوشبة يستعذب الملل لأول مرة في حياته بعد أن نجح في الانتحار عن المدينة.
أنا شجرة الخيزران، أُذكّر معدوم الأصل بالكونغ فو وأفلام الحركة، كذلك بأفلام الأنيمي اليابانية التي تخلق من الورق مدنا من الأصوات. أُذكره أيضًا بالمنزل القريب من الثانوية الأمريكية ومن حديقة التجارب التي دخلها أولا قبل عامين، حيث ألقيت عليه من الجانبين حصيلة ارتطام الريح بأوراقي، كما أوحيت إليه أن المجيء إلى الحديقة لوحده خطأ كبير لا يلغي الخطأ الأكبر الذي يلازمه. على أي، تحبني أخته الصغيرة، وفي افتتانها بي، بعض افتتانه.
شجرة الأرگان، مكاني المفترض البداية، لا أحتاج ضمير المتكلم لأنطق، أنطق بكل الضمائر وتنطق بي كل الضمائر. في ذكري ذكر كل ما كان، وفي غيابي غياب كل ما كان. لم يصعدني التائه، كما فعل أبناء قريته، فضلّ، لم يصل أبدا إلى القمة، لم ير قريته من ذروتي، لم يكن إلها كما أراد أن يكون، لم يرقب كل شيء ويسمع كل شيء ويطّلع على كل شيء مخزون في الذاكرة. قطع منتصف المسافة ثم رحل إلى مدينة الإسمنت، حيث احتمى بالصمت لمداراة الضباب الذي بدأ يتشكل في طريقه، اكتنفه حتى كاد يفقد صلته بالأرض التي سقتني وسقت دمه، بالرغم من جفافها، بالرغم من جفائها. لذلك افتقد الجبال طويلا وهو عاكف في المدينة يقلد صوتا ليس صوته، كالغراب الذي نسي مشيته بعد أن قضى دهرا يقلد مشية الببغاء العسكرية. من يبحث عن الأصل، يبحث عني، من يفتقدني يجد بعضا مني، لكن عليه نسيان الوصول إلى القمة. من يبحث عن الأصل لا يُدخلني في متاهات الترقيم، لأني خارج الترقيم، فأنا المبتدأ وأنا المنتهى. في المدينة تين ونخل وأوكاليبتوس وخيزران، الناقص أنا، الأرگان، لا تقبل جذوري المدينة، لا تنمو فيها، فالمدينة وحش يستزرع في جوفه أشجارًا اصطناعية تُعوض الأشجار التي نصّب جحره عليها. مكتوب على من يبحث عني هناك أن يظل ضالا يبحث عن سراب، مثل التائهين في صحراء الناصر خمير. لن يهتدي، لا اليوم، ولا غدا.
الأشجار تنطق مجتمعة: لنا أخوات في الخضرة تنتظر الدور، قد يفتح لها التائه الباب يوما، إذا حان الوقت.
سؤال: يا أيتها الأشجار، إذا أنا دخلت مثلا غابة تجمعكن، كما في طقس الشينرين-يوكو الياباني، أأتعافى من البحث عن جذور شجرة الأصل؟
كل صوت شجرة
جذور تنبت لا أحد يدري متى
جذور تختفي لا أحد يدري متى
البذور تبقى
تعود في صيغ أخرى
في تلاقحات أخرى
أثر الأصوات القديمة يسري في الأصوات الجديدة
وهكذا
بعض الأشجار ثابتة
بعضها ذاوية
بعضها جافة تنتظر الرواية
داخل خزانة منسية في إحدى المناطق الصناعية، عثر الفنان الفرنسي أنطوان دوباري في عام 1977 على مجموعة من البطاقات التعريفية الخاصة بعمال يدويين مغاربة اقتيدوا إلى فرنسا بين عامي 1939 و1940. ظلت تلك الصور تسكن دوباري سنوات بعدها، إلى أن قرر تنزيل ما بعثت في نفسه على أرض الواقع ضمن معرض متجول بعنوان “القطيعة“. أسفر هذا المعرض عن وجوه أولئك العمال الذي اجتثوا من أراضيهم لخدمة الاستعمار، لكن أحدهم استوقف الكاتب الفرنسي جان جينيه بسبب تطابق تاريخ ميلاده مع تاريخه هو. ألقى جينيه نظرة فاحصة على البطاقة، تمخضت عن نص بعنوان “رقم 1155″، أنار فيه على العنف الكامن في تلك البطاقات، نظرًا لأنها تحمل أدنى قدر من المعلومات وتطرح من المعادلة كل التاريخ الشخصي للأفراد الموسومين بلغة مقتضبة تنأى عن التبيين. من نص جينيه المذكور، الذي يستحضر صالح أحمد صالح، في محاولة للقفز على التغييب الذي طبّقه المستعمِر على المستعمَر، تأتي هذه المقطوعات التي تسترق السمع إلى بعض التاريخ المكشوط من الكتابات الرسمية، مفرزة بذلك تمثيلاً تقريبيًا لبعض الأصوات الغائبة الحاضرة، انطلاقًا من المحكيات الشفاهية والكتابية.
خال
بُعثت من جديد، من ذاكرة حية إلى ذاكرة لا تجد تأكيداتها إلا في الكتابة، بُعثت على نوتة صفراء، في هاتف شبه ذكي، به على الجانب خط أسود طويل، وله شاشة تبيضّ يوما تلو يوم، ربما من هول ما تطّلع عليه. بُعثت على ما يشبه القصيدة، لكن بلا اسم، على عكس صالح أحمد صالح. أنا، الخال الذي ضاع في فرنسا، ولدت على بعد كيلومترات من أَنْزي، المكان الذي نسبوا إليه صالح بأحرف مقتضبة تبتر مدارات الحكاية. أخذوني مع مَن أخذوا مِن الجبال التي قاومت البنادق بِإِيموريگ، حملوني إلى بلاد لا أعرفها، ثم أرسلوني لأحفر الأرض التي حاذر الأروميّ وطأها. نبشوا بي أرضا ليست أرضي حتى كَشَفَ جلدي، ثم ذرّوا بعض الفرنكات المعدومة في جيبي. غاب ذكري مع من غاب ذكرهم في مقابر فرنسا تحت الأرضية، ولكن اسمي لم يسقط كليا من الذاكرة، فصوتي، وصوت أمثالي، مصبوب في عروق النّابتين من الأرض التي تطاولت عليها قوانين التحفيظ.
حْماد أوعْلي
ذهبتُ أقطع الوادي فصرت مثلا. غريب أن يظل جزء من الإنسان حيا في الذاكرة فيما هو ميت، جاء ليقطع الوادي فأغرَقه. لكن ها أنذا، عدتُ لأحكي، تماما كما كنت أحكي قبل أن أصبح عِبرة تُلقى في وجه الأحياء. غريب هذا الحضور في الموت، لو خيّروني لفضّلت الحضور في الحياة كل مرة، لأن الحي فقط من يعرف القصة كاملة. لو جئت أروي قصتي مثلاً، لذكرتُ تفاصيل أيامي تحت الشمس، بقرب شجر الأرگان، وعلى الطريق الذي عبّده الإفرنس والذي ظل على حاله حتى بعد أن غادروا كَرهًا. لذكرت مواسم الزرع والحصاد والقيظ والقر، المواسم والأضرحة، اللحم الذي كان يأتي مرة في الشهر، الجفاف والماء المُتكشف بعد عجاج الديناميت، وفي بعض الحالات بعد تهافت الأطراف. لأخبرت عن الحكايات التي يموت فيها المرء إذا سرق رمانة تسد جوعه، عن القوة التي رفعت ناسا صاروا أذلاء بعد أن طالتهم لعنة المظلومين الذين منهم سارق الرمانة. لذكرت كذلك الأفراح والصيد وأزهار الربيع، خبز تَفَرْنوتْ وزيت الأرگان وأَمْلو، الشاي والسيارة الوحيدة في نطاق كيلومترات. كنت لأذكر كل هذا وأكثر، ولكن ما لم أكن لأذكره قطعًا هو كيف ذهبت أقطع الوادي فصرت مثلا.
حسن
أنا الذي أذّنوا في أذنه ثم امّحى، الشاهد الوحيد على وجودي حاضر في الصفحة الثالثة من كُنّاش الحالة المدنية، حاضرٌ حضورا ناقصا، بجوار الاسم الذي حل محلي. نتشارك نفس السطر، ولكن لا نتشارك نفس المصير. شطبني قلم موظف حكومي بعد الأيام السبعة المكتوبة لي في اللوح المحفوظ، عشت وديعا، مودعا في حِجر نسائي، ثم قرروا إجهاضي. يا ترى ماذا رأوا في مستقبلي؟ هل رأوا الكلمات الكاملة التي قيلت في محلها؟ خالف الأب، بإشارة من أخيه، وصية الجد في التسمية. سخط عليهم قليلا، ثم صفح، أما أنا فقد أقمت على سخطي. أنا الأحلام التي لم تكتمل والانتظارات التي لم تتحقق، مَن كان سيبقى بجوار الجد في تيزنيت، يقوده بالسيارة إلى حيث أساسات الأبناء المتجردة من الرغبة الفردية، مَن كان سيفتح محلا يبيع فيه الفضة المستخرجة من مناجم غير مناجم الجبال المُسيّجة. أنا من كان يفترض به أن يزور ويدعو بالرحمة ويتمثل أصوات المنسيين في صوته. الوحيد الذي ما زال يستدعيني هو الجار الخباز، يُخطئ كل مرة في التسمية، ينطق حسن بدل اسم النبي الخياط، فيُخرجني من قمقم العدم مع أنه لا يدرك شبرا من قصتي، أقول شبرا مع أن حروفي تحتل سنتيمترين فقط، ولكنها كانت لتمتد أشبارا لو لم تطلها يد الحكومة.
مجهول
مهاجر سري، مهاجر غير قانوني، مهاجر في وضعية غير قانونية، مهاجر غير نظامي، مهاجر من إفريقيا جنوب الصحراء، ثم جثة متفحمة في فضاء “بكار” المحاذي لمحطة ولاد زيان. مختصر حياة قطع خيوطها مفتعل الحريق الذي هو أنا أو مهاجر آخر مثلي، على ما تقول الأفواه الصفراء التي تلقّنت مآثر التحرير من لسان الحكومة الصمد. حملتِ الحافلات السرية المجهولين مثلي إلى الجنوب، إلى الحدود الشرقية، بعيدا عن الكاميرات، أما أنا فمَركون في مستودع للأموات، أخضع لإجراءات التشريح الطبي، لتحديد من أنا، للكشف عن حيثيات الحادث، لترتيب المسؤوليات والجزاءات. قبل أن أبلغ محطة شرطي أوروبا، قطعت الصحراء الخالية من نوارس فرانز رايت، قطعتها وأنا أحلم بالالتحاق بإخوتي الذين سبقوني إلى أوروبا، جنة الأوهام الموعودة. ضيّع العطش والجوع وعيي في الطريق، كما جر بعض السالكين إلى دروب الموت، من تساقط تساقطت معه الحكاية، ومن عاش عاش ليروي الأهوال التي طالت الأجسام المستباحة والأجسام المدفونة في الرمل، يرويها من داخل خيام تقفز فوقها الكاميرات إلا إذا ساعةُ التحرير دقّت.
إسلام يوسف هو فنان مصري ناشئ يعمل في مجالات السينما، والتصوير الفوتوغرافي والكتابة. تركز أفلامه على استكشاف مواضيع الذاكرة والهوية من خلال أشكال تجريبية مختلفة للسرد. من خلال التصوير الفوتوغرافي، يلتقط إسلام لحظات تعكس تقاطع المكان والتاريخ والذاكرة، بينما في كتاباته، يساهم من خلال نقد الأفلام في ربط السينما بالسياقات الثقافية والتاريخية، مما يساهم أيضا في عمله في الفن البصري.
إسلام يوسف هو فنان مصري ناشئ يعمل في مجالات السينما، والتصوير الفوتوغرافي والكتابة. تركز أفلامه على استكشاف مواضيع الذاكرة والهوية من خلال أشكال تجريبية مختلفة للسرد. من خلال التصوير الفوتوغرافي، يلتقط إسلام لحظات تعكس تقاطع المكان والتاريخ والذاكرة، بينما في كتاباته، يساهم من خلال نقد الأفلام في ربط السينما بالسياقات الثقافية والتاريخية، مما يساهم أيضا في عمله في الفن البصري.
مشروع “من الأساطير تنبع آلهتنا وشياطيننا” هو استكشاف لكيفية تشكيل الأساطير لواقعنا وتأثيرها على وعينا الباطن. يتناول المشروع تأثير أصوات الماضي؛ حيث مازالت القصص الشعبية والأديان القديمة تحكم فهمنا لبعض الأمور. يستعرض المشروع أيضًا الاعتقاد بأننا قادرون على خلق واقعنا من خلال أحلامنا، حيث يُعتبر الحلم “رؤية” مقدسة تحمل غرضًا إلهيًا محددا. جوهر العمل هو التأمل في أول استخدام للغة؛ أي الصوت الأول الذي أطلقه شخص لتنبيه شخص آخر بوجوده. تطرح أسئلة مثل: ما الذي أراد أن يوصله؟ وكيف كانت رؤيته للعالم قبل أن تتشكل الأفكار الكبرى والمفاهيم المجردة؟
مستفيدًا من قوة الأصوات القديمة وتأثير الماضي المستمر،يسعى هذا المشروع لفهم كيفية ولادة الأساطير وسبب استمرارها في التأثيرعلينا وكيف تشكل حياتنا اليوم.
مقدمة
أفكر دائماً في أول استخدام للغة؛ أول استخدام للصوت، الصوت الذي خرج من فم أحدهم حتى ينتبه شخص أخر لوجوده، ما الذي كان يفكر به وما هو الشئ الذي رغب في مشاركته؟ ففي ذلك الزمن البدائي لم تكن قد تكونت الأفكار الكبيرة والمُثل المجردة، فما هو الشيء الذي رغب في توصيله؟
أعتقد أنه شيء بعيد عن الأفكار الكبيرة ولكنه محوري وهام، لأنه وجدان شامل؛ بحر واسع من العواطف يحاول الشخص وصله مع كيان أخر. ربما لم يكن هدفه هو إيصال شيء أو حتى رسالة محددة، ربما أراد فقط أن يشرك الشخص الأخر في موقف وجودي معه، أن يشارك معه منظور أخر لتأمل الكون، ربما أراد أن يريه الجمال الذي يراه بنفسه. صيحته لم تكن لتوصيل شئ محدد ولكنه كان يحفز منطقة من الوعي في الأخر. تحفيز يبدأ ويجعله أنسان…هدفه اكتشاف الإنسانية.
لذلك لم أعتبر اللغة هي الكلمات ولكنها تعويذة لمجموعة من العناصر وباستخدام الحروف والمخارج وطريقة النطق والقول نستطيع أن ننقل للشخص الأخر نوع من الطاقة، وليس نوع من المعلومات. ولذلك أري أن أفضل طريقة للتعامل مع اللغة هو التعامل معها كالموسيقي؛ الكلمات ذاتها التي تكون الجمل تصنع شئ ملغز ينقل الطاقة والوجدان من شخص إلى شخص …هكذا تحدث المعجزة… وتشارك وجدانك مع شخص أخر.
هذه معجزة لا يصنعها سوي البشر، لذلك أري أن اللغة اليوم قد ماتت، فقدت الكلمات طاقتها، وأصبح الكلام نشاط، تم فصله عن هدفه الأولى في الزمن الأول، عندما كانت لكل كلمة قدسية ولكل حرف موسيقى.
الصوت -دائماً- من ناحية بدائية.
كيف تَكَوَن وكيف تمثل وتتطور، وكيف أكتشف الإنسان في نفسه هذه النوعية من الطاقة ؟
في هذه النشأة هناك أتجاهين: الاتجاه الأول يتمثل في الأسطورة التي تلجأ إلى المفاجأة ؛ بمعني أن الأسطورة تقترح أن الإنسان اكتشف هذا في نفسه فجأة كإلهام إلهي؛ مثال على ذلك: قصة الإنسان الأول في التراث البوذ. أما التطور يقتل كل هذا ويصف عملية بالغة التعقيد تمتد علي آلاف السنين؛ تتراوح بين تطور القدرات التي تشكل الصوت وتطور المجتمع ثم تطور اللغة .
لذلك أري أن الاهتمام بالسحر والتراث السحري حول العالم يعيد لنا مخزون كبير للطاقة التي أختزنها البدائيون في بداية استخدامهم للصوتيات. مثلاً هناك حيلة ما يجربها السحرة وتعمل بشكل ما بشروط دقيقة:
عندما نتكلم مثلا عن التراث المجوسي، وهو تراث عبري- عربي- أيراني، فطبقاً لشبنجلر هذه اللغات من أصل مشترك ووفقاً لتاريخها تطورت بطريقة متشابهة، مما جعل سرد أحد هذه اللغات: مثلا (العبري) علي شخص (عربي) شيء مألوف؛ فالعربي لا يعلم اللغة ولكنه في نفس اللحظة لا يشعر بغرابة في اللغة العبرية، وبالتالي يأخذ اللفظ المنطوق شكل طاقة صرف، لأنه لا يشكل أي معنى ولكنه يشكل طاقة صرف و إحساس .بشكل ما أجد أن هذا الأستخدام قريب من الأستخدام البدائي للغة.
الأستخدام السحري للغة التراث اليهودي(القبالة) والتراث المغربي
في البداية كانت القبالة اليهودية هي مجال التصوف اليهودي، هذا قبل الامتداد الشعبي لهذا الأدب، وبالتالي كان يستخدم كصيغ سحرية؛ كأن هذا التراث يحوي الحل لأي مشاكل دنيوية.
كيف حدث هذا؟ هذا هو ما سنحاول شرحه.
المبدأ الأساسي للتصوف اليهودي هو أن التوراة وجدت قبل خلق العالم، وأن السبب في وجود العالم وتشكله هو وجود التوراة. تُعامل التوراة كجسد حي؛ كل عضو فيه (حرف) له أهمية وله علاقة مقدسة بالعضو الأخر (الحرف الأخر) وعليه فأي اختلال في علاقة الحروف أو الأعضاء ببعضها البعض يشكل خطر على العالم في تكوينه.
تقول الأسطورة أن في بداية العالم نزلت التوراة على الجبل المقدس بسبعين لغة إلى سبعين أمة كانت موجودة وقتها، وأن لكل فرد بشري حرف من التوراة المقدسة، هذا الحرف هو أساس كينونة الشخص في إيقاعه المقدس مع العالم. هذه هي الناحية الاستعارية عند المتصوفة اليهود ومع تطور هذا الأدب الأسطوري تعقدت صيغة الأسطورة نفسها، فقُسم تاريخ العالم لدورات كونية حيث تتكون كل دورة من سبعة آلاف سنة، ولكل دورة توراتها الخاصة بها.
بناءً على ما سبق، اُعتبرت الدورة الحالية دورة فاسدة من الزمن، ومن المفترض أننا الآن في انتظار نهايتها حتى تبدأ دورة أفضل حيث ينتهي بها الفساد. في أسباب فساد هذه الدورة كان السبب الرئيسي هو أن التوراة الخاصة بهذه الدورة من الزمن فاسدة وهناك من تلاعب بها وقت تجميعها، فعدد الحروف للتوراة المكونة لها هي ثلاثين ألف حرف ولكن هذه الدورة عند الحاخاميين الكبار معطوبة بسبب نقص حرف واحد وهو (الشين) (ش)، لذلك هناك عيب رئيسي في التكوين العضوي للتوراة الذي بالتالي يقوم عليه العالم …وهو ما يجعله عالم فاسد. لذلك يتم التعامل مع ناسخي التوراة بحذر شديد، لأن أي استبدال للحروف أو نقص أو سهو سيؤثر على العالم ذاته … فإذا أقمت التوراة أقمت العالم، وإذا هدمتها هدمت العالم.
هذه المبادئ الاستعارية التي قام عليها التصوف اليهودي مهمة لأنها تفتح باب التأويل وتُخرِج الشعب اليهودي من وحدته وتجعل التوراة عالمية لكل البشر ولكن إذا تعاملنا مع هذه المبادئ بحرفية بدون فهم البعد الرمزي لها، سنجد أمامنا سحر الحروف والأرقام، وهي الطريقة التي نشأ بها سحر القبالة اليهودي.
جذور القبالة
التراث الشيعي الأيراني
(وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم )
في تراث الشيعة (الإثنى عشرية أو الأسماعلية) ترد كلمة (أم الكتاب) ككلمة مفتاحية لكل شيء؛ فهو الكتاب المؤسس للشيعة، وهو الكتاب الباطن، فإذا كان القرآن هو الكتاب الظاهر للعامة، فكتاب (أم الكتاب) هو الكتاب الباطن لخواص الأمة المؤهليين لتحمل الأسرار الإلهية ومبادئ العلم الإلهي.
ما يهمنا هنا هو طريقة تأوييل الشيعة لآيات الكتاب وكأنهم يفكون الغازاً أو يحلون أحجية، والمبدأ الأساسي مرة أخرى هو أن الحروف في ذاتها لها طاقة وتمثيل ورمزية، لابد من المُريد أن يصل لدرجات معينة من العلم حتى يستطيع تفكيكها. فيما يلي مثال علي ذلك:
ورد في (تفسير نور الثقلين/ للشيخ الحويزي 4 / 623) ما نصه: عن يعقوب بن جعفر بن إبراهيم قال: كنت عند أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) إذ أتاه رجل نصراني فقال: إني أسئلك أصلحك الله فقال : سل، فقال : أخبرني عن كتاب الله الذي أُنزل على محمد (صلى الله عليه وآله) ونطق به ثم وصفه بما وصفه فقال : (( حم * والكتاب المبين * إنا انزلناه في ليلة مباركة انا كنا منزلين )) ما تفسيرها في الباطن ؟ فقال: أما حم فهو محمد (صلى الله عليه وآله)، وهو في كتاب هود الذي أنزل عليه، وهو منقوص الحروف، وأما الكتاب المبين فهو أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وأما الليلة ففاطمة (صلوات الله عليها).
تأثير الشيعة على الصوفيين عموماً وعلى اليهودية خصوصاً
نُقلت المبادئ الشيعية في تفكيك الكتاب المقدس وحروفه ومعانيه كلها لحضارات أخرى، كما نُقلت التراتبية الإمامية والدورات الكونية هي الأخرى للقبالة اليهودية والتصوف السني أيضاً. فمصطلحات مثل (إمام) و (قطب) و(الحجة) و (والي) هي كلها من التراث الشيعي وتشير للشخص الذي يصل الإلهي بالأرضي، حتى بعد انتهاء دورة النبوة، مازال هذا الشخص يستطيع التواصل مع الإلهي عن طريق عدة وسائل: إما الحلم (الرؤية) أو الخواطر التي تحدث في اليقظة مثل الإلهام المباشر.
عندما أختلط الشيعة المغاربة باليهود الهاربين من الأندلس، حدث هذا الاندماج وتطور التصوف اليهودي بناءً على مبادئ شيعية، والباقي حكيناه مسبقاً.
خاتمة
دراسة السحر هي السبيل لإنقاذ صوتيات اللغة، هذه الطريقة في تفكيك الكلمات، والكشف عن رمزيتها وطاقتها، ثم حدوث التحول المتطرف من خلال التراث السحري الشعبي سواء في المغرب أو عند اليهودية، أو أكثر عند المغاربة اليهود ذاتهم، وتحول الكلمات إلى (رقى) و(تعاويذ) لحل المشاكل اليومية المختلفة أو الكبري، رغم أنه شيء بدائي وانحراف واضح عن مبادئ التصوف، ولكنها لها أهمية كبرى في إعادة استكشاف اللغة والكلمات والطاقة التي خلف هذه الكلمات. فما نشاهده اليوم هو موت للغة في الحياة اليومية، مما يجعل التواصل الإنساني في مشكلة حقيقية. لكن انطلاقا من هذا المنظور، نستطيع أن نحاول فهم سبب اختراع اللغة من الأساس؛ فالكلمة ذاتها كانت لها قدرة على الخلق، وفي التراث التوراتي أو الابراهيمي كانت البداية في سفر التكوين: في البدء كانت الكلمة، حيث يوصَف يسوع على أنه هو الكلمة التي أُلقيت على السيدة مريم.
روبا السيد (روبي كورليه) هي فنانة بصرية وناشطة مقيمة في سوريا وهي تعمل بشكل رئيسي مع الوسائط الرقمية والفيديو. تستكشف أعمال روبي التفاعلات البشرية المستمرة المتعلقة بالجوانب الإنسانية المختلفة، مع تركيز خاص على حضور المرأة والقضايا المتعلقة بالتساؤل حول الذاكرة الجمعية في ضوء الحرب السورية، باستخدام الرسومات والشهادات البصرية والتاريخ الشفوي.
روبا السيد (روبي كورليه) هي فنانة بصرية وناشطة مقيمة في سوريا وهي تعمل بشكل رئيسي مع الوسائط الرقمية والفيديو. تستكشف أعمال روبي التفاعلات البشرية المستمرة المتعلقة بالجوانب الإنسانية المختلفة، مع تركيز خاص على حضور المرأة والقضايا المتعلقة بالتساؤل حول الذاكرة الجمعية في ضوء الحرب السورية، باستخدام الرسومات والشهادات البصرية والتاريخ الشفوي.
“خمسة مرات في اليوم” هو فيديو تم إنتاجه من خلال ممارسة اجتماعية، و هو يستعرض تأثير الأذان على ممارسات الحياة اليومية في أحياء السليبة والعوينة في اللاذقية، سوريا. كان للمساجد دور محوري في الحرب السورية، حيث كان يعتبر نداء “الله أكبر” في الأذان دعوة للثورة. قبل وبعد عام 2011، اختلفت معايشة وتفاعل الناس مع نداء الأذان، رغم سماعهم نفس الأذان عدة مرات في اليوم. الآن نتساءل: هل يمكن للأصوات أن تؤثر على رحلتنا عبر الزمن؟ وهل يمكنها تشويه إدراكنا للأحداث وتأثيرها علينا؟
سلمى عبادة فنانة بصرية وأدائية مصرية تعمل وتعيش بالأسكندرية، تخرجت من كلية الفنون الجميلة، قسم عمارة عام 2020. تنتج سلمى بطرق متعددة لتشمل الأداء والحركة والأرشفة ووسائط أخرى سمعية وبصرية. تهتم في ممارستها الحالية بدراسة تقاطعات الحركة مع المحيط الحضري بالمدينة وتأثير التغيرات الناتجة عن عمليات الهدم والبناء على الذاكرة واللغة الجسدية.
سلمى عبادة فنانة بصرية وأدائية مصرية تعمل وتعيش بالأسكندرية، تخرجت من كلية الفنون الجميلة، قسم عمارة عام 2020. تنتج سلمى بطرق متعددة لتشمل الأداء والحركة والأرشفة ووسائط أخرى سمعية وبصرية. تهتم في ممارستها الحالية بدراسة تقاطعات الحركة مع المحيط الحضري بالمدينة وتأثير التغيرات الناتجة عن عمليات الهدم والبناء على الذاكرة واللغة الجسدية.
يتوقف قطار أبو قير في رحلته الأخيرة، لينتهي بذلك فصل طويل من تاريخه الممتد عبر سنوات طويلة، حيث كان جزءًا لا يتجزأ من النسيج السمعي والروحي للمدينة. كان صوت القطار على مدى العقود يعكس إيقاع الحياة اليومية، حاملاً معه ذكريات لا حصر لها ومرافقة الآلاف في رحلات العمل والدراسة والحب والوداع. الآن، ومع توقفه، يبدأ فصل جديد في تاريخ المدينة في إطار خطط التحديث. العمل مكون من أربع حركات تعكس التحول السريع للمدينة: البناء، الهدم، المقاومة، والتغيير، مع موسيقى أصوات عصافير الشارع على شجرة التغيير، وصوت مزلقان قطار أبو قير المحطة المتوقف.
تالا شمس الدين، مهندسة معمارية مهتمة بطرق الحفاظ على التراث المادي واللامادي واستكشاف دور الأزمات في نشوء المدن والسرديات البديلة غير المركزية الناتجة عنها. هي أيضأ مهتمة بالتقاطع بين مجالات العمارة والصوت والفنون. حصلت تالا على شهادة البكالوريوس في الهندسة المعمارية من جامعة دمشق عام ٢٠٢٠ وتخرجت من معهد صلحي الوادي للموسيقا عام ٢٠١٣.
تالا شمس الدين، مهندسة معمارية. مهتمة بطرق الحفاظ على التراث المادي واللامادي، حيث تعمل كباحث مساعد مع IW-Lab وفي مرصد التراث المعماري والعمراني لمدينة دمشق. كما تقوم باستكشاف دور الأزمات في نشوء المدن والسرديات البديلة غير المركزية الناتجة عنها، كما في مشروع “مساحات ناشئة” مع منصة Urbegony، هذا بالإضافة إلى استكشاف التقاطع ما بين العمارة، الصوت، والفنون. حصلت تالا على دعم مؤسسة اتجاهات – ثقافة مستقلة (2021) لإنجاز بحث بعنوان “أصوات مكانية: دراسة الشخصية السمعية لمدينة دمشق”. حاصلة على شهادة البكالوريوس في الهندسة المعمارية من جامعة دمشق (2020). خريجة معهد صلحي الوادي للموسيقا (2013).
العمل مكون من ثلاثة نصوص تصف وجهات نظر خاصة عن: أصل الصوت، كيف نرى الصوت ووصف شخص من خلال صوته. تستكشف هذه النصوص علاقة شخصية مع الصوت من خلال تتبع الصوت الداخلي ومحاولة فهم معناه عن طريق التحليل والتأمل بأصوات البيئة المحيطة بنا وأصوات الأشخاص من حولنا واصواتنا الداخلية. وهي بذلك محاولة لفهم أهمية الصوت في تشكيل تجاربنا الشخصية.
لا يمكن أن يكون الصوت هو أصل الوجود…
ربما غيابه أكثر منطقية
في البدء كانت الكلمة نعم… ولكن قبلها كان السكون
كالفراغ بين أعمدة البناء
أعمدة البناء تحمل المبنى (كالصوت يحمل الكلمات ويكسبها معنى). بين هذه الأعمدة فراغ، نرتبه كما نهوى (كالصمت أو السكون)
هذا الفراغ في عقلي يضيق مع مرور الزمن..
لا أستطيع تخيل الصوت كشيء انسيابي
أشعر به ككتلة اسمنتية ثقيلة
تأخذ حيزاً مادياً من الفراغ
كتل اسمنتية مؤقتة
محمولة على منطاد
تختفي هذه الكتل بزوال الصوت
تهبط، تثير ضجة، تضيف وزنا، ثم تذهب
تضيق المساحات في الصباح
أحتاج جهداً كبيراً لأوسع لنفسي حيزاً في المكان
صوت العصافير في الخارج
صوت السيارات وزماميرها
صوت جارتنا تبدأ صباحها كل يوم بغضب غير مبرر
صوت أمي تناديني لأستيقظ
صوت المياه تغلي في مكب القهوة
صوت فيديوهات قصيرة تضعها أمي في المطبخ
صوت المفتاح في قفل الباب مدخلاً أبي
صوت في رأسي يسأل … ماذا حلمت للتو؟ لماذا كنت أسبح؟
زوبعة في المعدة
في الرأس
في اللسان
أخاف أن أصرخ في وجه الكون، فيرد صراخي بصراخ…
أحارب لأوسع حيزاً لصوتي
حيزاً لأصوات خطواتي
حيزاً لصوت هاتفي
حيزاً لحوار صباحي قصير مع أمي وأبي
في أيام قليلة أستطيع في الصباح صنع حيز لصوت نباتات شرفتنا
أنتظر قدوم المساء
لأسمع صوتي وأصنع حيزاً من المكان للأصوات في رأسي.
الصوت بيت
رأيته ذات يوم وأنا أتجول في البرية
محاطاً بالأشجار
كان يبدو دافئاً
تنيره نار المدفئة
هل أنت بيتي؟
كنت أعتقد أني سأظل هائمة أنتمي الى الغابات، إلى الذين لا صوت لهم
أخاف أن أدخل المنزل الدافئ فيصعب عليّ الخروج
مشيت وعدت إلى الغابة
لا صوت يلازمني إلا صوت الرياح… وتكسر الأغصان تحت قدمي على تربة رطبة
يناديني البيت مراراً خلال اليوم
لم يقل لي ماذا يريد ولم يجب على سؤالي
هو فقط ينادي لي باسمي
أتجاهله وأكمل
لا وقت للدفء الآن
أفكر أنه بإمكاني رؤية بيوت أصدقائي بوضوح
أعرف حتى كيف يرتبون غرفهم
فناء للفرح
مليء بالأشجار ودالية تحمل عناقيد ضحكاتهم
شرفة للحب
ذات سياج حديدي قديم مزخرف مليء بالتفاصيل والهمسات المعقودة
غرف كثيرة للخوف
أغلقناها سوية، ونخاف الآن أن نفتحها
رواق للحلم
بشبابيك كثيرة وكبيرة يدخل منها أصداء الماضي، الحاضر، والمستقبل
مطبخ للمزاح
هناك حيث لا نخاف الفشل. مصنع للتهكمات، نلقيها على أنفسنا قبل أن نتناولها عشاءً لذيذاً
قبو للحزن
به صندوق مقفل لأصواتهم حين ترتجف قبل البكاء، ولأصواتهم بعد الخيبة
مستودع للتعب
مليء بتنهدات لم يوجد وقت لأخذها، نراكمها هناك إلى أن نجد وقتاً لنستريح
غرفة فارغة مليئة بالمرايا هناك غالباً ما نجلس حين نتحادث
عليّة للعمل
أودّعهم على بابها وأخرج.
. . .
أحاول أن أتخيل شكلاً لبيتي
يبدو لي مهملاً، غير مرتب
والمرايا فيه جميعها محطمة
لكنه حتماً يقع في الغابة
كهذا البيت الدافئ
. . .
الصوت مكان
سقف وجدران
وربما الصوت أمان
ولا وقت للأمان الآن
. . .
صوت مبهم
أحاول استرجاعه.. استحضاره.. التقاطه..
صوت لشخص هادئ
رأيته يوماً رمادي
وأراه اليوم أبيضاً، ناصعا كالنسيان
أحاول الوصول له
بعد أن طوقته بالجدران، وتغافلت عن إقفال بابه
أبني جسراً
أبني مركباً
أبني شوارع لا تنتهي
ولا أصل
أحياناً يكون صمته كيد مبتورة في منتصف الطريق
وأحيانا يفسح صمته المكان لأصوات أخرى
يصمت
تنبت شرفة
يصمت
يوقظ فسحة
يصمت ويصمت ويصمت
يخلق حدائق مسيجة
وجدت في صمتك غربة
لكنك أخبرتني يوماً أنك لم تصرخ حين كنت طفلاً
كيف تعلمت دفن ألمك؟ كيف تعلمت محوه من حنجرتك؟
هل استشعرت غربتك منذ ذلك الوقت؟
هل رأيت في الغربة مكاناً يبرر صمتك؟
ألهذا تحبذ ألا تعود؟
قد اعتدت الكتابة أكثر من الكلام
لكنك قلت لي أنك توقفت منذ وصلت… إلى هناك
هل أضعت صوتك؟
أعلم أنك تعلمت كيفية تحويل الارتجاف إلى سكون
فهل ملأت السكينة قلبك؟
أم استبدلت لغتك بلغة بيضاء وظننتها السكينة؟
هي ليست سكينة… هي فقط انعدام للهوية
ف أنت لست أبيض… أتذكر؟
كان واقعك رمادي نعم، ولكنك كنت ملون بالسكون.
أعلم أن لغتنا تمرضك
هي ثقيلة، غابرة، مليئة بالأشباح
عليك أن تخلق لغتك إذاً
وعليي أن أخلق صوت لك
لاأعلم لماذا أصر على اختراع صوت لخطوات أشخاص غابو
ربما أريد سماع صدى صوتي فيهم
ربما أحاول فقط سماع صوتي.
سارة حمدي هي فنانة مصرية متعددة التخصصات، ومنسقة، وباحثة في مجال الصوت. تتخصص في استكشاف الصوت كآداه بحثية في الفنون المعاصرة، مستخدمة مجموعة متنوعة من الوسائط، بما في ذلك التركيبات الفنية، والنصوص، والرسوم، والأعمال الصوتية، والتدخلات التشاركية، والأفعال الأدائية التربوية.
في عام 2020، أسست مشروع "مساحات صوتية"، وهو منصة إلكترونية مخصصة لأرشفة وتعزيز دراسات الصوت والمشاريع الإبداعية الصوتية في مصر، وهي منسقة برنامج "هيئات إيكولوجية، أصوات تجريبية، ٢٠٢٤."